كانت مغامرةً فريدةً من نوعها؛ تلك التي خاضها المهاجرون الأوائل الذين اختاروا الوصول إلى أقاصي العالم، بحثاً عن الفُرص وتحقيق الأحلام في العالم الجديد، بعد أنْ ضاقت بهم البلاد، قبل أنْ يصبحوا، مع مرور الزمن، جاليةً كبيرةً مستقرة، وذات نفوذ على مختلف الصُعُد والمستويات، إنها قصة موجات الهجرة والاستقرار المتتابعة من فلسطين نحو أمريكا اللاتينية. فكيف بدأت؟ وما هي أبرز فصولها؟ وكيف حافظ الفلسطينيون على هويتهم وارتباطهم بوطنهم؟
البدايات.. فيمَ كان يفكر المهاجرون الأوائل؟
تصلُ أعداد المنحدرين من أصول فلسطينية، اليوم، في أمريكا اللاتينية (أمريكا الوسطى والجنوبية) إلى ما يزيد عن 700 ألف، ما يجعل منهم أكبرَ تجمّع فلسطيني خارج العالم العربي، ويتواجد نحو 400 إلى 450 ألفاً منهم في تشيلي وحدها، ويشكلون ما نسبته 2.5% من سكان البلاد، بينما يتواجد نحو 100 ألف في السلفادور والهندوراس، ونحو 50 ألف في البرازيل، بينما تقل الأعداد في دول أخرى كالباراغواي إلى حوالي الألف فقط.
تعودُ بدايات الهجرة من فلسطين إلى أمريكا اللاتينية إلى بداية الهجرة من مناطق الدولة العثمانية نحو العالم الجديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت الهجرة الفلسطينية متداخلة آنذاك مع هجرة السوريين واللبنانيين، حيث كانت جزءاً من الهجرات القادمة من عموم بلاد الشام باتجاه العالم الجديد.
واتّجهت الهجرات، بدايةً، نحو أمريكا الشمالية، قبل أنْ يبدأ بعضُها بالتّوغل والاتجاه جنوباً نحو أمريكا الوسطى بحثاً عن فرص جديدة، واستمرّتْ هذه الهجرات وتزايدت في فترات لاحقة من القرن العشرين. وقد وصل مجموع المهاجرين من مختلف أنحاء الدولة العثمانية للعالم الجديد إلى نحو 1.2 مليون مهاجر في الفترة من عام 1860 وحتى العام 1914، منهم الأرمن والعرب، ومنهم المسلمون، والمسيحيون، واليهود، وكان يطلق عليهم جميعاً "الأتراك" بسبب حملهم جوازات سفر عثمانية.
تعدّدت الأسباب التي دفعت بالمهاجرين إلى ركوب البحر والسفر إلى ما وراء البحار، فمن تفاقم الفقر وشدّة الحال، إلى توالي المجاعات والقحط. ويلاحظ أنّ نسبة كبيرة من المهاجرين القادمين من لبنان وفلسطين كانوا من المسيحيين، وهو ما يُعزى إلى تعرّض المسيحيين للاضطهاد والتمييز الديني في العهد العثماني، إضافة إلى اندلاع اقتتالات طائفية، كما وقع بين الدروز والمارونيين في جبل لبنان عام 1860. وقد تزايدت الأسباب الدافعة للهجرة، بعد وصول "جمعية الاتحاد والترقي" إلى الحكم عام 1908، والقيام بتطبيق سياسات التتريك، وفرض التجنيد الإجباري، خصوصاً في حرب البلقان (1912-1913) وحملة السويس (1915)، حيث كان الخوف من تجنيد الأبناء، وبالتالي فقدانهم إلى الأبد، يدفع الآباء إلى خيار تهجيرهم والفرار بهم بعيداً عن البلاد.
في أمريكا اللاتينية.. العبور إلى حافة العالم
كان عددٌ من المهاجرين الأوائل تجاراً، ذهبوا للمشاركة في المعارض الصناعية بالولايات المتحدة، وكان التجار المسيحيون يشاركون بالمنحوتات ذات الطابع الديني، مستفيدين من كونهم قادمين من "الأرض المقدسة"، ويذكر المؤرخ الفلسطيني عدنان مسلّم أنّ عدداً من التجار الفلسطينيين من مدينة بيت لحم شاركوا في المعرض الدولي في مدينة فيلادلفيا المنعقد عام 1876، ثم في معرض شيكاغو الدولي عام 1893، والمعرض العالمي في سانت لويس عام 1904. فكانت المشاركة في مثل هذه المعارض فرصة للتعرف على تلك البلاد، وسبباً لبداية الاهتمام والسعي للهجرة والاستقرار هناك.
ومنذ وقت مبكر، بدأتْ أعدادٌ من المهاجرين بالاتجاه نحو الجنوب، بحثاً عن فرص جديدة في بلاد أخرى، بدايةً من المكسيك، ومن ثم نحو أمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية. وبعد ذلك بدأت الرحلات تتجه مباشرةً نحو أمريكا الجنوبية، فكانت تخرج من موانئ بيروت والإسكندرية وحيفا، وتتّجه نحو ميناء البندقية أو مرسيليا، ومن ثم يركب المسافرون في البواخر المتجهة إلى ميناء ساو باولو وميناء بوينس آيرس.
وقد فضّل الفلسطينيون، القادمون إلى موانئ أمريكا الجنوبية، عبورَ جبال الأنديز، والاتجاه غرباً وشمالاً نحو التشيلي والإكوادور وبوليفيا، والبيرو، وذلك تجنباً للمنافسة مع التجار القادمين من سوريا ولبنان، والذين كانوا قد سبقوهم إلى هناك، حيث يشتركون معهم بنفس الأعمال والمنتجات، فكانوا يعبرون الجبال على ظهور البغال، ووصل أوائل المهاجرين الفلسطينيين إلى تشيلي في العام 1880، واليوم، يتركّز العرب من أصول سورية ولبنانية في الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا، بينما يتركّز الفلسطينيون في غرب وشمال القارّة، وبالتحديد في التشيلي.
النشاط الاقتصادي وبداياته الصعبة
كانت المهنةُ السائدةُ بين المهاجرين الأوائل هي التجارة، وخصوصاً تجارة المجزّأ، والتي كانت غير رائجة في تلك البلاد، حتى أصبحت كلمة "تركي" مترادفة مع "بائع متجول". وكانت البداية ببيع المنحوتات والصناعات اليدوية.
وواجه المهاجرون عدمَ التقبل والتمييز من قبل المستعمرين الأوروبيين في المستعمرات، الذين كان يميلون لاستقبال الأوروبيين، أما الأتراك (القادمون من الدولة العثمانية) فكانوا يميّزون ضدهم، ما اضطرهم للجوء إلى البلدات والقرى النائية.
ولكنّ الحال اختلف بعد الكساد الكبير والأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، وخلال الثلاثينيات، حين ازداد تقبّل وإدماج العرب، وذلك مع اضطرار الحكام إلى الاعتماد عليهم في تنشيط التجارة والصناعات بالبلاد. وكمثال على التحوّل في تلك المرحلة، نذكر "خوان يارور" (1894 - 1954)، الصناعي ورجل الأعمال الفلسطيني (من مواليد بيت لحم) الذي قام بافتتاح مصنع النسيج في سانتياغو، عاصمة تشيلي، عام 1936، بعدما كان نشاطه منحصراً في مدينة لاباز، وهو المصنع الذي وصل عدد العاملين فيه عام 1948 إلى ثلاثة آلاف عامل، ووصلت مساهمته إلى 60% من إجمالي إنتاج النسيج في البلاد، وكان الأكبر في أمريكا الجنوبية. بينما تشير سجلات الاتحاد التجاري السوري الفلسطيني في التشيلي، إلى تأسيس 147 مصنعٍ بأموال عربية، في الفترة الواقعة ما بين عام 1933 وعام 1937، في التشيلي وحدها. كما شهدت تلك الفترة بداية اتجاه المستثمرين الفلسطينيين نحو قطاع البنوك، وذلك مع تأسيس خوان يارور البنك الاستثماري في سانتياغو عام 1937.
الفلسطينيون في قوائم كبار الأثرياء
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ازداد تمكّن الفلسطينيين في مختلف قطاعات الاقتصاد، وسرعان ما برزت أسماء فلسطينية عديدة ضمن طبقة كبار الاثرياء وكبار رجال الأعمال، واليوم تبرز أسماء عديدة، منها: سلفادور سعيد، والذي يُعدّ واحداً من أثرى أثرياء تشيلي والقارة اللاتينية، حيث قدّرت ثروته في عام 2017 بنحو 38 مليار دولار. يمتلك سعيد مشاريعَ في تشيلي والأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وكولومبيا والبيرو، وتتنوع استثماراته ما بين العقارات، والمراكز التجارية، والبنوك، والطاقة، والقطاع الزراعي، والغذائي.
ومن الأسماء الشهيرة أيضاً: ألفارو سايه (صايغ) (مواليد 1949)، واحد من أثرى أثرياء تشيلي والقارة اللاتينية، وبحسب إحصاءات فوربس للعام 2018 فقد صُنّف صايغ في المرتبة الرابعة ضمن قائمة أغنى الأغنياء في تشيلي، وهو رئيس مجموعة "كورب"، إحدى أكبر التكتلات الاقتصادية في البلاد، وهو أيضاً القائم بأعمال الرئيس التنفيذي لمجموعة "كوبيسا" الإعلامية، وهو كذلك صاحب سلسلة من الفنادق الكبرى في القارّة، منها: فندق جراند حياة سانتياغو، وفور سيزونز في بوينس آيرس، وفور سيزونز كارميلو. ومن بين الأسماء الشهيرة أيضاً: ألبرتو قسيس، رجل الأعمال الذي يسيطر على نحو 40% من سوق اللحوم المصنعة في تشيلي، حتى لقب بـ "ملك النقانق".
وفي الهندوراس، برز اسم ميغيل فاكوسه (فقوسة) (1924 - 2015)، أغنى الأغنياء في الهندوراس، والذي أسس في عام 1960 مجموعة "دينانت" التصنيعية، وبحسب دراسة أعدّتها مؤسسة فريدريتش ايبرت عام 2006 اعتبر فاكوسة واحداً من أكثر ثلاث رجال سلطةً ونفوذاً في الهندوراس، كما برزت أسماء فلسطينية أخرى في الهندوراس كفريدي ناصر (مواليد 1956)، رئيس مجموعة "تيرا"، والتي تسيطر اليوم على صناعة البترول في البلاد. وقد أدى بروز أسماء عديدة من كبار رجال الأعمال أصحاب الأصول الفلسطينية، إلى نشوء نزعة معادية للفلسطينيين (الأتراك) بين العمال والطبقات الدنيا في البلاد بسبب الاعتقاد والشعور بأنهم مسيطرين على الاقتصاد والسياسة في البلاد.
الاهتمام والنشاط السياسي.. فلسطينيون في المناصب العُليا
أما على الصعيد السياسي، وتبعاً لتزايد النشاط الاقتصادي، بدأ الاهتمام والنشاط السياسي بين الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية خلال الثلاثينيات، وفي الأربعينيات تمّ انتخاب أول عضو من أصل فلسطيني في مجلس الشيوخ التشيلي.
تصاعد الانخراط الفلسطيني خلال الخمسينيات والستينيات، وجاء التحوّل الأبرز في عهد الرئيس كارلوس ايبانيز (1952 - 1958) عندما شارك في حكومته وزيران من أصل فلسطيني من حزب العمال، اشتهر منهم رافاييل طارود (طراد) الصيداوي (1918 - 2009)، أو كما يلقب في تشيلي "التركي طارود"، الذي شغل آنذاك منصب وزير الاقتصاد والمناجم، وقد واصل طارود مسيرته السياسة والتي بلغت ذروتها عام 1970 حين أعلن عن ترشّحه للانتخابات الرئاسية لعام 1970. وكان السائد خلال تلك المرحلة اتجاه الفلسطينيين إلى الأحزاب اليسارية والأحزاب الشعبوية التي أبدت استعدادها لاستقبالهم، في مقابل عدم تقبّل الأحزاب اليمينية لاستقبال العرب.
وفي بداية السبعينيات، في ظلّ تصاعد الحرب الباردة وتأثيراتها على مستوى القارّة، ظهر الانقسام السياسي بين الفلسطينيين في التشيلي بشكل حادّ، وذلك مع اتجاه الصناعيين ورجال الأعمال نحو المحافظة، واتجاه قطاع من النخب من الأجيال الأصغر نحو اليسار، وبعد وصول الرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي إلى الحكم عام 1970، انقسم فلسطينيو تشيلي في موقفهم من حكومة أليندي، وخصوصاً بعد قيامه بإعلان قوانين التأميم والإصلاحات الاقتصادية التي تسببت بالضرر لطبقة رجال الأعمال والصناعيين، ومنهم الفلسطينيين. وحين حدث انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه عليه عام 1973، المدعوم من الولايات المتحدة، رحّبت النخبة الاقتصادية بالحاكم الجديد، إلى درجة أن استضاف "الأخوين خوان وألبرتو قسيس" - من مواليد بيت لحم - عددٌ من ضباط الانقلاب بعد أيام من وقوعه، في المقابل، كانت هناك أسماء عديدة من الفلسطينيين المؤيدين لأليندي، منهم من تم طرده من البلاد بعد الانقلاب، كالمخرج السينمائي ميغيل ليتين (اليتيم)، والشاعر محفوظ ماسيس، وكان رافاييل طارود من بين أبرز المعارضين للانقلاب.
ويعتبر "شفيق حنضل" (1930 - 2006) من بين أبرز الأسماء السياسة الفلسطينية في أمريكا اللاتينية، وهو الذي شغل منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السلفادوري، قبل أنْ يفقد قناعته بالعملية الديمقراطية في البلاد ويتجه إلى تبني خيار الكفاح المسلح، وخصوصاً بعد تزوير الانتخابات عام 1977، فأصبح قائد جبهة "فارابوندو مارتي للتحرّر الوطني" في السلفادور، حتى توقيع معاهدة السلام مع الحكومة عام 1992 وتحوّل الجبهة إلى حزب سياسي، شغل حنضل منصب الأمين العام له، وانتخب حنضل عام 1997 عضواً في الجمعية التشريعية السلفادورية، كما ترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب عام 2004.
وقد برزت أسماء سياسية فلسطينية عديدة على مستوى أمريكا اللاتينية وصلت إلى كبرى المناصب والمواقع القيادية، نذكر منها: مويسيس (موسى) حسان، القائد في "الجبهة الساندينية للتحرير الوطني" في نيكاراغوا، وفرانسيسكو شهوان، الذي وصل إلى منصب نائب رئيس الجمهورية في التشيلي في الفترة (2006 - 2010)، وفي السلفادور، وصل أنتونيو ساكا (السقا)، إلى منصب رئاسة البلاد في الفترة (2004 - 2009). وفي البرازيل، انتخب عمر عزيز عام 2010 حاكماً لولاية الأمازون التي يتركز فيها التواجد الفلسطيني في البلاد. أما في غواتيمالا، فقد وصل خورخيه لاراش (جورج الأعرج) إلى منصب وزير الخارجية في الفترة (2004 - 2006). وفي بنما، انتخب جاسم سلامة، رئيساً لمقاطعة كولن البنمية، في الفترة (2002 - 2004). وفي البيرو، اختير سيمون يوده (عودة) رئيساً للوزراء في الفترة (2008 - 2009)، في حين وصل عمر شحادة، إلى منصب النائب الثاني لرئيس البيرو، في الفترة (2011 - 2012)، وانتخب دانييل أبو غطاس، رئيساً للبرلمان في الجمهورية خلال الفترة (2010 - 2014).
الهوية والارتباط بفلسطين
في بداية توافدهم، كان الفلسطينيون يحملون هويات متداخلة، فهم عرب، وهم أتراك (Los turcos) حيث عرفوا بأنهم أتراك لأنهم قَدِموا من الدولة العثمانية ويحملون الوثائق وجوازات السفر العثمانية، إضافة إلى انتسابهم لبلاد الشام، والأرض المقدسة. ولكنّ الهوية الفلسطينية لم تبرُزْ كهوية مستقلة إلا بعد بداية حكم الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1920، وبروز فلسطين ككيان سياسي مستقل عن محيطه، ويعكس تلك اللحظة تأسيس نادي ديبورتيفو بالستينو عام 1920، والذي يشير اسمه إلى بداية بروز الهوية الفلسطينية بين المهاجرين في تشيلي. وقد شهد عقد العشرينيات بروز الوعي والهوية الفلسطينية، وهو ما انعكس في تأسيس عدد من الجمعيات والمؤسسات التي حملت اسم فلسطين خلال تلك الفترة.
وتزايد تبلور الهوية الفلسطينية خلال الثلاثينيات، مع تطور وانتشار الطباعة والصحافة السياسية في تشيلي والتي عملت على زيادة مستوى المتابعة والارتباط بفلسطين. وكان حكم الانتداب البريطاني، وما رافقه من تبلور القضية الفلسطينية العامل والدافع الأهم لتزايد الارتباط وتبلور الهوية الفلسطينية بين المهاجرين. وقد لمس فلسطينيو أمريكا اللاتينية التحولات التي كانت تجري على الأرض في فلسطين، حين حاول العديد منهم العودة إلى بلادهم، سواء للزيارة أو لقضاء الحاجات، أو الاستقرار، فقابلتهم سلطات الانتداب بالتضييق، ورفضت منح معظمهم الجنسية الفلسطينية، وطوال عهد الانتداب لم يتم منح سوى ما مجموعه 465 جنسية فقط للفلسطينيين العائدين من أمريكا اللاتينية، في المقابل تم استقبال وتوطين ما يزيد عن 300 ألف لاجئ يهودي من أوروبا، وذلك في إطار مخططات بريطانيا لتهويد فلسطين والتمهيد لإقامة الوطن القومي لليهود فيها. وقد توّج النشاط السياسي الفلسطيني في مرحلة الانتداب في تصويت جميع دول أمريكا اللاتينية ضد قرار تقسيم فلسطين عام 1947.
الاندماج في المجتمع وتراجع الهوية الفلسطينية
يختلف الفلسطينيون في أمريكا اللاتينية عن مجموع اللاجئين الفلسطينيين حول العالم في نقطة جوهرية، وهي اكتسابهم الجنسية في بلاد المهجر وعدم اكتساب صفة اللجوء، ما أدى إلى اندماجهم وتوطنهم في بلاد المهجر. وقد ساعدت طبيعة الهوية والمجتمعات في أمريكا اللاتينية على تعزيز فرص اندماج الفلسطينيين، فالهوية الجامعة سابقة على التقسيمات الفرعية، خلافاً لما هو الحال عليه في الولايات المتحدة مثلاً، فهي مجتمعات متجانسة وليست مجتمعات جاليات غير متمازجة.
حتى الثلاثينيات، كانت 90% من حالات الزواج عند الفلسطينيين غير مختلطة، حيث كانت تقتصر على الزواج من الفلسطينيين أو العرب، كما كانت الأجيال الأولى قد حافظت على استخدام اللغة العربية، ما عمل آنذاك على تعزيز وتماسك الهوية الخاصة بهم وقلل من اندماجهم في المجتمعات الجديدة. إلا أنّ الابتعاد عن الحديث والكتابة باللغة العربية منذ الجيل الثاني والثالث، والتحول نحو الإسبانية، إضافة إلى تزايد الاتجاه نحو الزواج المختلط، مع غير العرب، أدّى إلى زيادة الاندماج وتعريف أنفسهم بالهويات اللاتينية. في حين انحصرت الهوية والخصوصية الفلسطينية تدريجياً في الفلكلور، واللباس، والمطبخ، التي حافظ الفلسطينيون عليها.
السبعينيات.. إعادة الارتباط
بعد انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 بدأت تتبلور حول العالم هوية فلسطينية جديدة، تجمعُ الفلسطينيين حول العالم، وتقوم على تبنّي مقولات الكفاح والتحرير والعودة، وبعد الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974، وقبولها كعضو مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام ذاته، ازداد التفاف الفلسطينيين من جميع انحاء العالم حول المنظمة، وبدا لأول مرّة أنّ هناك كياناً سياسياً جامعاً للفلسطينيين وممثلاً لهم. لم يكن فلسطينيو أمريكا اللاتينية بمعزل عن هذه التطورات، فقد افتتحت منظمة التحرير أولى مكاتبها في أمريكا اللاتينية في البرازيل عام 1975، ثم في كوبا عام 1976، وفي تشيلي عام 1979. كما ساهمت المنظمة في افتتاح مركز المعلومات في التشيلي، وتأسيس حركة "سنعود" الثقافية الشبابية في تشيلي، وساهمت هذه التحوّلات في تزايد الارتباط بفلسطين من جديد بين الفلسطينيين هناك.
وشهدت الألفية الجديدة، تزايداً في الاهتمام والمتابعة للشأن الفلسطيني، وذلك بالتزامن مع أحداث الانتفاضة الثانية، وفي عام 2000 تأسست في تشيلي جمعية "فلسطين-بيت لحم"، وصدرت عنها مجلة "الضمير"، والتي خصصت لتناول أخبار الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية وقصص نجاحهم، والمساعدات التي يتم إرسالها إلى فلسطين من خلال الجمعية والقنوات الأخرى. كما تتابع افتتاح عدد من المواقع الإلكترونية المختصة بالشأن الفلسطيني. وتزايد الارتباط بفلسطين مع ثورة المعلومات والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع بالعديد من الشبان إلى زيارة فلسطين، وفي عام 2011 حصلت واقعة لافتة، عندما قامت سلطات الاحتلال بمنع دخول خمسة مسافرين من التشيلي بسبب أنهم يحملون أسماء عائلات فلسطينية. وقد ترجم تزايد الاهتمام والنشاط الفلسطيني في مبادرة دول أمريكا اللاتينية للاعتراف بدولة فلسطين عام 2011.
أسماء بارزة.. في الأدب والفن
لم يقتصر النشاط الفلسطيني في أمريكا اللاتينية على صُعد الاقتصاد والسياسة، فعلى الصعيد الفني، اشتهر منذ زمن مبكر "الأخوان بدر وإبراهيم لاما (الأعمى)" واللذان كانا قد قررا في عام 1927 العودة إلى وطنهما، فلسطين، وفي طريق العودة نزلا في الإسكندرية فأعجبتهم وقررا الاستقرار بها، فأسسا فيها داراً للإنتاج، وقاما بإنتاج وإخراج فيلم "قبلة في الصحراء"، وهو أول فيلم سينمائي مصري. وفي السينما أيضاً، برز اسم المخرج السينمائي التشيلي ميغيل ليتين (اليتيم)، وهو من مواليد 1942 في تشيلي، ويعود أصله إلى بيت لحم، وهو كذلك كاتب روائي، وماركو زارور (زعرور)، الممثل ومنتج الأفلام التشيلي. ومن الأسماء التي برزت في مجال الدراما؛ الممثلة الكوبية بولا علي، واشتهر من الكتاب: كاتب المقالة الأرجنتيني-الفلسطيني غوستافو روخانا (روحانا)، وفي مجال الأدب: ناتالي حنضل، الشاعرة والكاتبة المسرحية من هايتي.
اليوم، تزداد الحاجة إلى تفعيل وتعزيز أواصر الترابط والتواصل مع الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية، وتزداد الحاجة إلى تعزيز ارتباطهم بفلسطين والهوية والتاريخ الفلسطيني، ودمجهم ضمن مجموع الفلسطينيين حول العالم، بما يخدم ويدعم القضية الفلسطينية، في ظل ما تواجهه من تحديّات ومخططات تهدف إلى تسويتها وتجاوز الحق الفلسطيني.
0 Please Share a Your Opinion.:
إرسال تعليق