عرب أمريكا اللاتينية.. جذور عميقة وتأثير كبير | لاتينا بوست | العربية

Mobile Menu

ads

More News

عرب أمريكا اللاتينية.. جذور عميقة وتأثير كبير

يونيو 13, 2020

في خريف تلحمي من عام 1929، ضحّى عفيف قطان، وكان شابّاً في عمر الـ18، بالمرة الأخيرة لقضاء العيد المجيد في مسقط رأسه بيت لحم، وقبل أن يحل شتاء ذلك العام وتقرع كنيسة المهد أجراسها احتفاء بالعيد، كان قد رحل.
في الـ22 من نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام، بدا عفيف متحمسا للحاق بإخوته الذين لا يعرفهم إلا عبر البريد، مصطحبا معه أحلاما كثيرة إلى أميركا، أرض الأحلام.. هكذا كان اسم أميركا براقا مخادعا، وكان يذهب ظنُّ الكثيرين إلى أن أميركا تعني فقط "الولايات المتحدة".
من القدس لمصر لمارسيليا لنيويورك لنيو أورليانز فالهندوراس، جاب عفيف قطان تلك الموانئ لمرة واحدة فقط في رحلة ذهاب سقط الإياب منها بعد أن صار المكان الجديد مسقط رأس أولاده ومستقر رزقه، العمر أيضا لم يمهله كثيرا لتأجيج مشاعر الحنين في شيخوخة عادة ما تنسى كل شيء عدا طفولة صاحبها. مات عفيف في عمر الـ 46 تاركا عشرة من الأبناء وإرثا من الذكريات وجواز سفر فلسطيني تابع للانتداب البريطاني، تحتفظ به ابنته خولييتا قطان.
كانت فلسطين في ذلك الوقت تشهد نزوحا من اليهود الذين سيعلنون دولتهم على أرضه عام 1948، وكان اليوم الذي سيطلق عليه "النكبة" هو ذاته الذي الذي رأى فيه أبناء عفيف أباهم يبكي، لكنهم لم يكونوا شاهدين على بكاءٍ أقدم؛ فحينما وصل عفيف ميناء "بويرتو كورتيس" أوائل عام 1930، كانت الحرب الأهلية على أشدها في الهندوراس وكانت المرة الأولى التي يرى فيها عفيف جنودا حفاة وهو المعتاد على رؤية جنود بريطانيين أنيقين. مشهد الجنود الحفاة المنهكين لم ينمح يوما من ذاكرته وكان مقدمة اصطدامه بحياة تهيأها أقل تعقيدا من الحياة في وطنه المحتل.
وفي الوقت الذي وصل فيه عفيف للهندوراس، وصل مهاجر فلسطيني آخر قادم من قرية بيت جالا لمدينة غواياكيل في الإكوادور. وبينما كان يتم إجراءات وصوله، قرر لسبب ما أن يغير اسم عائلته من عبد ربه إلى أماذور، لتعرف "أماذور" كعائلة من أصل فلسطيني في غواياكيل وفرعا من العائلة الأكبر "عبد ربه". لربما خشي  من أن يكون اسم العائلة العربي مدعاة لنبذه من الشعب المضيف، فقرر تسميته تغييره لأقرب لفظ قشتالي سمعه، أو اقترحه عليه أحدهم، بل ربما سأله الموظف في الدائرة عن اسم عائلته وحين كان يردد الاسم، سجّل الموظف ما تناهى إلى سمعه حاذفا الأصوات التي لا يعرفها دون استبدالها بآخر، كحرف العين مثلا.
كنيات كثيرة كان لها نفس المصير بقرار من أصحابها أو باجتهادات شخصية من موظفي دوائر الأحوال المدنية، ففي كوبا تحول اسم عائلة "غانم" إلى "غوميس"، "جبرائيل" إلى "غابرييل"، "خليل" إلى "خوليو"، "محمد" إلى "خايمي"، "نعمة الله" إلى "ناتاليو"، "نجار" إلى "نيار"، "نجيب" إلى "فيليب"، "شلهوب" إلى "سالوب". وحدث أن سأل موظف آخر في تلك الدائرة مهاجرا عن اسم عائلته، وحين لم يعرف الطريقة التي يُكتب بها سأله عن المعنى، وهكذا تحول اسم عائلة "حرب" إلى "غيرّا" (Guerra) وعائلة "حبيب" إلى "أمادو" (Amado)، و"الراسي" صارت "كابيساس" (Cabezas)، التي تعني "رؤوس".
لكن لأسعد إبراهيم خروبة، قصة أخرى؛ فقد كان المسيحيون يدفعون "جزية" للدولة العثمانية مقابل الحماية وعدم التحاق أبنائهم في الجيش. وحين دقت طبول الحرب العالمية الأولى عام 1914، لم تفرق الدولة العثمانية بين مسلم ومسيحي وكانت تجبر الجميع على الانضمام للحرب. أسعد إبراهيم كافيتي المنحدر من بيت جالا كان شابا يافعا وأبا لطفل صغير هو مانويل. وبمساعدة من قريباته (من عمات أو خالات) اللاتي عملن بالقاعدة التي تقول في ذلك الوقت "من الأفضل أن يكون حيا في أميركا على أن يكون ميتا بجانبنا"، خرج من فلسطين بأوراق مزورة مستغنيا فيها عن اسم عائلته الأصل "كافيتي" مستعيضا عنه بـ"خروبة". ولم يلتحق به ابنه مانويل إلا شابا وتزوج من أهل تلك البلاد.
نيكولاس ضاحك، كان له مصير أسعد أيضا، فقد كان من عائلة لبنانية مسيحية تسكن فلسطين وقد أرسلت العائلة أبناءها تباعا لـ"أميركا" التي صادف وكانت "الإكوادور".
ابتعاد رب البيت عن زوجته وأولاده كان شائعا في تلك الفترة. وقد كانت تتراوح أعمار المهاجرين ما بين الـ15 والـ 30 عاما، منهم من اصطحب زوجته معه، إذ كانت العائلة تزوجهم من قريباتهم ليذهبوا سويا ويضمنوا عدم زواج الشباب بنساء من أهالي تلك البلاد. لكن هذا لم يفلح في منع الشباب من الاقتران بزوجات أو صديقات لاتينيات.
غابرييل عبد ربه، (الإكوادور، 1972) يروي أن جداه تزوجا في سن صغيرة بتوجيه من العائلة وهاجرا سويا عبر إيطاليا حتى وصلا مدينة غواياكيل عام 1930. لم يمضيا فيها وقتا حتى انتقلا للعاصمة كيتو حيث بدءا تجارتهما بلغة إسبانية مبتدئة ودعم من بقية أفراد العائلة وعائلة طعمة التي صارت "توما" وهي من أوائل العائلات التي وصلت غواياكيل عام 1930. لكن الجد كان يرحل من وقت لآخر بحثا عن علاقات غرامية بعيدا عن إكراهات العائلة ليعود في أوقات متقطعة لبيته وزوجته وأولاده.. أولاده الذين وصل عددهم لـ12 ابنا وبنتا أوكلت مهمة تربيتهم للأم (جدة غابرييل).
مهاجرون آخرون اضطروا للرحيل بحثا عن حياة أفضل، كثير منهم ترك زوجته وأبناءه ولم يرهم أبدا، أو التقى بهم بعد سنين طوال وبعد أن صنع له حياة جديدة تماما، مملوءة بعائلة جديدة ورزق جديد.
من الشمال الأميركي لجنوبه
كان المسيحيون في بلاد الشام هم أول من بدأ الهجرة للأميركيتين.. ابتداء توجهوا لأميركا اللاتينية ملاحقين "حمى الذهب" منذ العام 1850، وكانت معظم الهجرات تتم لأسباب اقتصاية وسياسية. أقام بعض المهاجرين من عرب وصينيين وأوروبيين في مدينتي تكساس ونيو مكسيكو وكانت أراضيهما قد انضمت منذ ذلك الوقت للولايات المتحدة بعد حرب المكسيك والولايات المتحدة التي وقعت بين عامي 1846 و1848.
وفي العام 1854، وصل الطالب، أنطونيو فريحة البشهلاني لدراسة اللاهوت في بوسطن، من لبنان ليكون من أوائل المهاجرين الواصلين لدوافع علمية. ثم بدأت الهجرات بالاتجاه جنوبا في البداية نحو البرازيل بوصول المهاجر يوسف موسى في العام 1859. ومنذ عام 1870، تواجد في شارع واشنطن بنيويورك تجار لبنانيون في مقدمة حي شرقي أسموه "سوريا الصغيرة". وفي البرازيل تقول مصادر إن الجالية اللبنانية هي الأكبر، وفي الأرجنتين يأتي ترتيب الجالية العربية بعد الإيطالية والإسبانية، وفي كولومبيا هناك جالية لبنانية وسورية وفلسطينية وبعد الحرب ضد العراق، أصبح هناك جالية عراقية أقل.

مسابح وصلبان ومشغولات خشبية للبيع
حمل المهاجرون الأوائل معهم من بيت لحم مسابح وصلبان ومشغولات يدوية من المدينة المقدسة وكانوا يتاجرون بها في هذه البلاد الكاثوليكية والتي ينحو أهلها نحو التدين في ذلك الوقت.
وقد بدأت الهجرة لأميركا الوسطى منذ العام 1880. وكانت تقدم للمهاجرين تسهيلات تشجعهم على البقاء في تلك البلاد، ففي الهندوراس مثلا، شهد العام 1890 إقرارتسهيلات للمهاجرين  شجعتهم على البقاء والاستقرار.
عمل المهاجرون العرب في التجارة بمختلف أنواع المنتوجات، وفي بداية القرن العشرين، بدأ السوق الأميركي بالانفتاح لاستقبال منتجات الموز، وكان المهاجرون الفلسطينيون الأسبق للالتقاط التجارة الجديدة، لم يعملوا في زراعة الموز ولا بتصديره بل بالتجارة في أدوات الزراعة التي زاد الطلب عليها من ملاك الأراضي والمزارعين.

الاندماج
كان هناك تاريخ من الاستعمار يجمع بين اللاتينيين والأوروبيين، ولهذا كان اندماج الأوروبي بأهل القارة اللاتينية أكثر سهولة، فيما كان الاندماج مع الآسيويين من عرب وصينيين أكثر صعوبة وكانوا يرونهم أكثر غرابة. لكن الاندماج جاء بالتدريج ودخل العرب في الحياة السياسية ولاحقا الثورية فضلا عن التجارية والاجتماعية والثقافية .. إلخ.
وفي كوبا، انضم المهاجرون العرب مبكرا في الجيش الكوبي واندمجوا في الدفاع عن بلادهم الجديدة، من بينهم أليخاندرو حداد من حلب – سوريا برتبة جندي عام 1877، وخوسيه سلامة من بشري – لبنان برتبة قائد عام 1882 وغريبين عباد من بيت لحم عام 1889 رتبة رقيب.
وفي نيكاراغوا، شاركوا في الثورة الساندينية التي بدأت في ستينيات القرن الماضي حتى انتصرت عام 1979. كما أسست الجاليات العربية في معظم البلدان التي سكنتها تجمعات خاصة بها على شكل نواد أو جمعيات أو اتحادات.
وفي السلفادور كان مؤسس الجبهة اليسارية هو شفيق حنظل من أصل فلسطيني.
كان الاندماج يزداد مع كل جيل، وبات أبناء المهاجرين يعرِّفون عن هوياتهم تبعا للبلاد التي ولد أجدادهم بها في أميركا اللاتينية، رغم أنهم يضيفون شبه الجملة "من أصل عربي" إذا استدعى الأمر.. الكثير منهم إن لم يكن جميعهم مرتبطون بجذورهم عبر ذاكرة الأجداد والآباء. ولذلك، فمعظم الشعراء والكتاب اللاتينيين من أصول عربية تحضر كلمة "الجد" و"الجدة" في كتاباتهم وأشعارهم.
وهو تأثير طبيعي ومنطقي من طرفين، فمن ناحية، تأثر الأدب اللاتيني بشكل عام بالثقافة العربية، وقد استحضرها كتَّاب بارزون في أعمالهم كالأرجنتيني لويس بورخيس في كتابه "الألف" وقد كان بورخيس متأثرا بألف ليلة وليلة بينما تأثر آخرون بالاحتكاك المباشر مع المهاجرين العرب كالكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في رواية "وقائع موت معلن" والتشيلية إيزابيل الليندي في رواية "إيفالونا".
الكتّاب اللاتينيون ذوو الأصول العربية وزيادة على ذلك، تأثروا بثقافة ملموسة داخل جدران بيوتهم كانت تشمل بضع كلمات بالعربية، العادات والتقاليد التي تخففوا منها لكنهم ظلوا واعين بها، المأكولات التي دخلت مطابخ البلدان التي أقاموا فيها حتى أصبحت الشاورما في المكسيك تدعى بـ"التاكو العربي". لقد تأثروا أيضا بكاتب ومهاجر مثلهم هو جبران خليل جبران فضلا عن حكايات الأجداد. ولعل أشهر تلك القصائد التي خلّدت ذكرى أبٍ ولد في لبنان وهاجر ومات في المكسيك، هي قصيدة "موت الرائد سابينس" للشاعر المكسيكي من أصل لبناني "خايمي صغبيني".

المسكوت عنه
صحيح أن العرب شاركوا في الثورات التي هدفت لحرية الشعوب في أوقات عصيبة مرت بها القارة اللاتينية التي عانت من دكتاتوريات وحروب أهلية، لكن لنتذكر أن العرب أيضا حققوا ثروات هائلة وخصوصا في أوقات مبكرة حتى أصبح جزء لا بأس به منهم ينتمي لطبقة من الرأسماليين التي تهتم بمصالحها في ظل شبه غياب لدعم بلدانهم الأصلية وخصوصا من ذوي الأصول الفلسطينية التي ترتهن قضيتهم بالقرارات والمواقف الدولية. ولذلك فقد كان جزء كبير منهم –على سبيل المثال- مؤيدا للديكتاتور النيكاراغوي أناستاسيو سوموسا قبل انتصار الثورة الساندينية ذات التوجه اليساري، والكثيرون رحلوا من نيكاراغوا بمجرد وصول الساندينستا للحكم، ولربما أطلقت تلك الشريحة من الرأسماليين على "ثوار" أميركا اللاتينية لفظة "المخربين" في بلدان أخرى شهدت تمردا على النظم الاستبدادية والإمبريالية السائدة.



0 Please Share a Your Opinion.:

إرسال تعليق